التهديد بإطلاق النار على المتظاهرين في الشوارع لم يأت من جانب مسؤولي مكافحة الشغب وانما جاء من جانب برلمانيين في مجلس الشعب منتخبين من المواطنين بهدف الدفاع عن مصالحهم امام السلطة التنفيذية وتمثيلهم داخل مقار السلطة التشريعية.
من هنا جاءت الصدمة بالغة الخطورة، في ان يدعو عدد من النواب، بينهم نائب تنقل بين احزاب المعارضة وبدأ حياته مكافحا في الشارع يبيع «الكبدة» احد اشهر الوجبات الشعبية للمواطنين، وتحول الى السياسة والعمل الحزبي والبرلماني لكي يفاجىء الجميع بقيادته عددا من نواب الحزب الوطني لاطلاق النار على المتظاهرين في الشوارع بحجة ضمان الاستقرار وحماية البلد من التخريب والعنف والخطط الاجنبية.
صحيح ان معظم النواب بما في ذلك نواب الاغلبية والمعارضة قد تتابعوا في رفض وادانة تلك الدعاوى الخطرة، لكن عملية التحريض تلك تحولت الى بالون اختبار لقياس مواقف القوى السياسية المختلفة ازاء كيفية مواجهة عمليات الاحتجاج الاجتماعي المتزايدة بشكل كبير، بحيث اصبح تقليديا وجود عمال او موظفين ونقابيين لعدة جهات مضربين في الوقت نفسه على ارصفة مجلس «الشعب» و«الشورى» وسط حراسة الشرطة وعجز المجلس والحكومة عن تقديم حلول حاسمة، وان نجح المضربون في مناسبات مختلفة في الحصول على جزء لا بأس به من مطالبهم.
الاحتجاج الاجتماعي
واذا كان النواب، الذين دعوا الى اطلاق النار على المتظاهرين، يقصدون غالبا التظاهرات السياسية وما يتردد عن خطط لدى قوى سياسية معارضة النزول الى الشارع، في أعقاب قيام آلاف من شباب جماعة 6 ابريل «الالكترونية» بالنزول الى الشارع في الذكرى الثالثة لتأسيس الحركة، وتعرضهم لضرب مبرح من رجال الشرطة، وسط تصميم وتعاون من الشباب للتظاهر في الشارع، مرة كل سنة يغادرون فيها الواقع الافتراضي الى الواقع الحقيقي. واختبار خطابهم السياسي المعارض الذي يعبر عن ملايين الشباب المحبط اجتماعياً واقتصادياً، وهو ما أحدث حالة من التجاوب وردود الفعل الايجابية لدى القوى السياسية والاجتماعية، في ظل تصاعد عمليات الاحتجاج الاجتماعي بشكل غير مسبوق في العقود الثلاثة المنقضية.
حكم تاريخي للقضاء
والجديد في الوسائل التي ابتكرتها حركات الاحتجاج الاجتماعي، هو اللجوء الى القضاء لمقاضاة الحكومة، بصفتها صاحب العمل الأكبر كمشغل للقوى العاملة (قرابة 6 ملايين في القطاع الحكومي والعام من بين 25 مليونا في سوق العمل)، حيث اصدرت محكمة القضاء الاداري برئاسة المستشار عادل فرغلي حكماً تاريخياً وانتصاراً لــ«الغلابة» بمطالبة المجلس القومي للاجور بممارسة مهامه بوضع حد أدنى للأجور على المستوى القومي يراعي نفقات المعيشة المتزايدة والتدابير التي تكفل تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار.
وطبقاً لعريضة الدعوى التي قدمها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية موكلاً من العامل (ناجي رشاد)، فقد تم تحديد الحد الأدنى للأجور بمبلغ 1200 جنيه مصري شهرياً، وذلك طبقاً لمستوى الأسعار الحالي، مع مراعاة رفع هذا الحد وفقاً لنسب التضخم وتحت شعار «اجر عادل.. يكفي شهر كامل» الانتصار الذي تحقق بواحدة من حركات الاحتجاج الاجتماعي من خلال ساحات القضاء وضع الحكومة في مأزق، فهي عملياً لا تستطيع رفع الحد الأدنى للأجور بهذا الحد، اذ تحتاج الى 137 مليار جنيه لتنفيذ الحكم، وبالتالي بدأت في تقديم عروض مختلفة بزيادة الحد الأدنى الى 550 جنيهاً وهو حد الفقر، وفقاً لتقديرات البنك الدولي (دولار واحد يومياً)، وفي ظل أن قانون الحد الادنى للاجور رقم 137 لسنة 81 قرر الحد الأدنى للاجور بــ35 جنيهاً شهريا!.
وفي محاولة أخرى لامتصاص حالة الغضب الناتجة عن الارتفاع المذهل للاسعار، خصوصا المواد الغذائية واللحوم في المقدمة حيث ترتفع اسعارها اسبوعياً من 55 جنيهاً الى مائة جنيه للكيلو قرر الرئيس حسني مبارك رفع العلاوة الاجتماعية السنوية التي ستصرف في يوليو المقبل إلى 10 في المائة بدلاً من %7 كما اقترحت الحكومة، كما توسعت الحكومة في استيراد المواد الغذائية واللحوم من الخارج، ومراقبة توزيع تلك المواد بالبطاقات والحيلولة دون تسربها للسوق السوداء، والحفاظ على أسعار المحروقات عند حدها الحالي. وفي رأي الخبراء الاقتصاديين فإن تلك السياسة هي بمنزلة مسكنات مؤقتة في ظل انفلات الأسعار، وعدم عدالة توزيع الدخل، حيث يصل الناتج المحلي الإجمالي إلى تريليون و38 مليار جنيه وعدد السكان 80 مليونا، بما يعني ان نصيب الفرد من هذا الناتج يبلغ 12982 سنوياً أي نحو 1082 جنيها شهرياً، وفقا للدراسة الاقتصادية التي أعدها الباحث د. أحمد السيد النجار اعتماداً على تقارير البنك المركزي، ومشيراً في الوقت نفسه إلى ان متوسط إنتاجية العامل يبلغ 41711 جنيهاً في العام أي نحو 3276 شهرياً والفارق بين الرقمين هو ما يحصل عليه صاحب العمل.
الثورة الاحتجاجية
ووسط طوفان الأرقام والاقتراحات المقدمة من اتحاد العمال بتحديد 900 جنيه شهرياً حدا أدنى، ود. صفوت النحاس ممثلاً للحكومة بان يكون الحد الأدنى أعلى من خط الفقر القومي (180 جنيهاً) وأقل من نصف متوسط الأجور (900 جنيه)، واقتراح المركزي المصري للحقوق الاجتماعية الذي حصل على حكم لمحكمة القضاء الإداري بتحديد الأجر الأدنى عند 1200 جنيه، علاوة على اجتهادات أخرى، فإن المخاوف من اندلاع حركات احتجاج عنيفة في الشوارع، تبدو أقرب إلى الحدوث في أي وقت، والمشكلة ان الصخب السياسي الذي أحدثه نزول «البرادعي» إلى الساحة السياسية والشغب المعتاد مع الاخوان وأحزاب المعارضة قد أحدث سحابة دخان كثيفة اخفت وراءها تصاعد السخط الاجتماعي ومعاناة الملايين، وهو ما يعيد الى الاذهان تظاهرات الغضب سنة 1977 حين هتف ملايين المتظاهرين ضد رئيس مجلس الشعب سيد مرعي قائلين «سيد مرعي يا سيد بيه.. كيلو اللحمة بقى بجنيه» وقتها ارتكبت الحكومة خطأ برفع اسعار عدة سلع مرة واحدة ونشرت ذلك في الصحف. فخرجت التظاهرات الغاضبة، ودفع السياسيون المعارضون ثمنا لها بتهمة التحريض والتنظيم، وقد برأهم القضاء، ولكن الحكومة تعلمت ألا تعلن عن رفع الأسعار دفعة واحدة، واستحدثت تعبيرات مثل «تحريك الأسعار» التي تتحرك يوميا بعيدا عن قدرة الحكومة على ايقافها.
وفي تظاهرات 1977 التي وصفها الرئيس الراحل انور السادات بانتفاضة الحرامية، اطلقت قوات مكافحة الشغب النيران على المتظاهرين، وبعضهم حاول استغلال الفرصة لسلب المتاجر والمخازن وتدمير المنشآت العامة، وقتل في تلك التظاهرات عدد من المواطنين، في ظل خروج عدة ملايين للتظاهر من القاهرة الى الاسكندرية واسوان لمدة يومين كاملين، حتى تم فرض حظر التجول والغاء زيادات الاسعار. وشتان الفارق بين اسعار 77 واسعار 2010 التي تجعل اي حد ادنى للأجور لا يكفي لانقاذ الملايين من جحيم الأسعار.